شهدت الندوة العلمية التي أدارها الدكتور محمد عثمان الخشت، عضو المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد، مناقشات عميقة حول أهمية تجديد الخطاب الديني خاصة في قضايا المواطنة والنظم السياسية، حيث تم التأكيد على ضرورة إعادة بناء العلاقة بين المقدس والبشري وفك المفاهيم التراثية التي نشأت في عصور مختلفة.

جاءت الندوة ضمن الملتقى الفلسفي المشترك بعنوان «المواطنة والآخر وفلسفة الوجود الإنساني»، الذي نظمته جامعة محمد بن زايد بالتعاون مع بيت الفلسفة بالفجيرة، تحت إشراف الدكتور خليفة الظاهري والدكتور أحمد برقاوي، وكانت بمثابة مواجهة فكرية قوية لخطاب الإسلاموية السياسية الذي استمر لعقود في استغلال الدين للسيطرة على السلطة وخلط الوحي بالمشروعات الأيديولوجية.

أشار الدكتور الخشت إلى أن أحد أكبر المعوقات للتطور السياسي في المجتمعات الإسلامية هو الخلط بين الدين، كونه وحيًا مقدسًا، وبين النظم السياسية التي هي اجتهادات بشرية متغيرة، مما أدى إلى ظهور نماذج ثيوقراطية تدعي قداسة سياسية لا أساس لها في الدين.

وأكد على أن هذا الخلط استغلته الجماعات الإسلاموية لترويج نموذج حكم ديني زائف، يدعي احتكار التفسير الشرعي، ويؤدي إلى استبداد مغطى بعباءة الدين، داعيًا إلى إعادة قراءة أحكام التراث السياسي بما يتماشى مع الدولة الوطنية الحديثة التي تستند إلى الدستور والقانون، وليس إلى نماذج الحكم القديمة التي تستدعيها التيارات المتطرفة لتبرير أفكارها.

وشدد على أن تجديد الخطاب الديني في ملف المواطنة يتطلب ثلاثة مسارات رئيسية، أولها مسار منهجي لإعادة ضبط أدوات فهم النص والتراث، وثانيها مسار مفاهيمي لإعادة تعريف مصطلحات مثل “الرعية” و“الحاكمية” و“أهل الذمة”، وثالثها مسار عملي لإنتاج خطاب ديني معاصر يعترف بالمواطنة الكاملة لجميع أبناء الوطن على أساس المساواة والكرامة الإنسانية، موضحًا أن هذه المفاهيم غالبًا ما تُستحضر خارج سياقها التاريخي وتُستخدم لفرض رؤية سياسية بعيدة عن جوهر الشريعة.

كما أكد الدكتور الخشت أن شكل نظام الحكم وطبيعة المؤسسات السياسية تدخل في نطاق الاجتهاد البشري المتغير، مشيرًا إلى أهمية إعادة قراءة مفاهيم مثل الحاكمية والطاعة والرعية في ضوء مقاصد الشريعة ومبادئ المواطنة المتساوية، واعتبر أن فهم الحاكمية كحكم القانون العادل والمؤسسات الدستورية يفضح مزاعم الجماعات المتشددة التي ربطت الحاكمية بسلطة أفراد أو أحزاب تدعي الحديث باسم الدين.

وأشار إلى ضرورة نقل المواطن من موقع “الرعية” إلى موقع “الشريك في الوطن”، وإعادة تفعيل القيم الشرعية الكبرى مثل العدل والحرية والكرامة الإنسانية، باعتبارها المرجعية الحاكمة لتقويم النظم السياسية وإدارة الشأن العام، موضحًا أن التخويف المستمر من الحرية والمواطنة يتعارض مع روح الشريعة التي جعلت كرامة الإنسان أساسًا للتشريع.

في هذا الإطار، قدم الدكتور الخشت تأسيسًا فقهيًا يميز بين تصرفات النبي كمبلغ عن الله وإمام سياسي وقاضٍ، مما يسمح بفصل ما هو تشريعي ثابت عما هو تدبيري مصلحي قابل للاجتهاد، مما يتيح قبول النظم السياسية الحديثة مثل الدستور والفصل بين السلطات والدولة المدنية، وهو ما يتعارض مع محاولات الإسلاموية السياسية تحويل التجربة النبوية إلى نموذج سلطاني جامد يخدم أيديولوجياتها.

كما أبرز الدور التأسيسي لصحيفة المدينة كأقدم نموذج لعقد اجتماعي يساوي بين مكونات المجتمع بغض النظر عن الدين، مما يساعد في تجاوز المفاهيم التقليدية لصالح نموذج المواطنة الحديثة القائم على المساواة أمام القانون، وهو ما يتعارض مع الخطابات الإقصائية التي تعتمد عليها الجماعات الإسلاموية في تصوراتها للهوية.

اختتم الدكتور الخشت رؤيته بالتأكيد على الحاجة إلى خطاب ديني جديد يتعامل مع الإنسان كشريك في الوطن وليس مجرد رعية، ويرسخ قيم الكرامة والعدل والمساواة، ويعترف بالدولة الوطنية الدستورية كإطار مشروع لتحقيق مقاصد الشريعة، مما يتيح التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع، مؤكدًا أن هذا هو الطريق الأنسب لمواجهة سرديات الجماعات المتطرفة وإعادة الدين إلى مجاله الطبيعي كدافع للقيم الإنسانية وليس كأداة للهيمنة السياسية.

جدير بالذكر أن مشروع الدكتور محمد عثمان الخشت يحظى بأهمية كبيرة في العالم العربي، حيث يعمل على تأسيس خطاب ديني جديد ورؤية عقلانية مستنيرة للدين بعيدًا عن الجمود والتقليد الأعمى، وقد ساهمت مؤلفاته ومشاركته الفكرية في إثراء الحوار الثقافي والديني وتقديم حلول للتحديات الفكرية التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث.